الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد،
يدور
نقاش محموم بين العرب واليهود حول من هو صاحب الحق التاريخي في بيت
المقدس، فبينما يتمسك العرب بأن هذا المسجد بناه أمير المؤمنين عمر بن
الخطاب - رضي الله عنه - وبقى من يومها في سلطان المسلمين إلى يومنا هذا، يدعي اليهود أن المسجد أقامه المسلمون على أنقاض هيكل سليمان، ويقومون
بعمليات حفر تحت المسجد الأقصى لعلهم يجدون أحجاراً تعود إلى عصر نبي الله
سليمان - عليه السلام - وبطبيعة الحال تغيب الحقائق الشرعية في خضم هذا
الصراع بين القوميين العرب وبين اليهود ولذلك أردنا أن ننبه على الحقائق
الآتية:
1- مسألة
الحق التاريخي من المنظور الشرعي، لا يقر المسلمون أحداً على أرض كان
عليها يوماً من الأيام وفتحها المسلمون (إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا
مَن يَشَاء) (الأعراف: 128) بل إن المسلمين لا يخفون عزمهم على تحرير الأرض
ـ كل الأرض ـ من سلطان الكافرين متى استطاعوا إلى ذلك سبيلاً (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ) (البقرة: 193).
2- المسلمون
هم ورثة جميع الأنبياء، يستوي في ذلك أنبياء بني إسرائيل وغيرهم من
الأنبياء قال صلى الله عليه وسلم: "أنا أولى بأخي موسى منهم" وقال: "أنا
أولى الناس بعيسى بن مريم في الدنيا والآخرة".
3- المسجد
الأقصى بُني مسجداً من أول يوم، سُئل صلى الله عليه وسلم: "أي المساجد بني
أولاً؟"، فقال: "المسجد الحرام"، قيل: "ثم أي؟" قال: "المسجد الأقصى؟"،
قيل: "كم كان بينهما؟"، قال: "أربعون؟".
وثمة
خلاف بين العلماء في تاريخ بناء المسجدين إلا أن الراجح أن البناء المذكور
هنا في الحديث هو رفع إبراهيم - عليه السلام - للقواعد من البيت الحرام،
سواء قلنا أنه هو واضعها أو أنها وضعت قبله، وأن بناء المسجد الأقصى كان
بعد بناء إبراهيم - عليه السلام - للمسجد الحرام بأربعين عاماً وبناه يعقوب
- عليه السلام - مسجداً لبني إسرائيل يصلون فيه لله، ويوحدون فيه الله،
ولا ننكر أن من الممكن أن يكون المسجد في لغة بني إسرائيل آنذاك يسمى
هيكلاً، وإنما المقصود بيان أن حقيقته كما بينها النبي - صلى الله عليه
وسلم - أنه كان مسجداً.
وقد
تعرض بني إسرائيل عبر تاريخهم لأزمات كانوا يفرون فيها من الشام تاركين
المسجد الأقصى وراءهم لأعدائهم يهدمونه ويدنسونه ثم عندما يتوبون إلى الله
ويعودون إلى الجهاد في سبيله يعزهم الله ـ عز وجل ـ، وكانت أزهى عصور ملكهم
عصر نبي الله داود - عليه السلام - ومن هنا حصلت العناية بالمسجد الأقصى،
وتم تجديده في عهد داود وسليمان - عليهما السلام - وهو المسمى عندهم بهيكل
سليمان، ومن عجيب أمرهم أن سليمان - عليه السلام - الذي يطالبون بوراثة
مسجده أو هيكله ـ على حد تعبيرهم ـ عندهم أنه ارتد وعبد الأصنام في آخر
حياته حاشاه - عليه السلام - من ذلك وقد ظلوا على هذه الفرية حتى أبطلها
الله في القرآن المنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم - (وَمَا كَفَرَ
سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا) (البقرة: 102)، فمن أولى
بوراثته عليه السلام؟
ثم
علا اليهود في الأرض مرة ثانية فقتلوا يحيى وزكريا - عليهما السلام -
وهموا بقتل عيسى - عليه السلام - بمساعدة الرومان فسلط الله عليهم الرومان
في سنة 70 ميلادية أي بعد نحو أربعين سنة من رفع عيسى عليه السلام - إن صح
أنه رفع وعمره قريب من الثلاثين ـ وتسلط الرومان على المسجد الأقصى وجعلوه
اسطبلاً للخيول حتى فتحه المسلمون في عهد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -
وأعادوا بناءه وتنظيفه، أما القول بأن عمر - رضي الله عنه - بنى مسجداً في
غير المكان التاريخي للمسجد الأقصى هرباً من الإقرار لليهود بحقهم التاريخي
في المسجد الأقصى فقد بينّا بحمد الله أنه ليس لأحد حق تاريخي بل ولا حالي
في أي بقعة من الأرض لاسيما التي تحت سلطان المسلمين.
فإن
قال قائل: "فإن القوم لا يستطيعون أن يتكلموا بتلك اللغة التي إن وسعت
الإسلاميين ـ لاسيما المتشددين منهم ـ فلا يمكن بحال من الأحوال أن تسع
القوميين والعلمانيين لاسيما المحبين للسلام منهم"، فنقول: "أما العودة إلى
القانون الدولي الذي يتحاكمون إليه، لقد اعتبر القانون الدولي الحدود
القائمة حال إنشاء عصبة الأمم ومن بعدها الأمم المتحدة هي الحدود المعتبرة،
ولم يعترف القانون الدولي بحق تاريخي للهنود الحمر في أمريكا مثلاً، ولا
اعترف بحق للهنود غير الحمر في أوربا ـ وهم صانعو حضارتها ـ حيث أن الرومان
ورثوا حضارتهم عن اليونان الذين هم في أصلهم هنود، ولم يعترف القانون
الدولي بأي حق تاريخي لأحد اللهم إلا لليهود في بلاد المسلمين".
وإذا
كان ولابد من اعتراف بحق تاريخي فإلى أي فترة من فترات التاريخ سيرجعون،
وقد بينّا أن أقرب واقع للمسجد الأقصى هو هروب اليهود منه من أمام الروم -
الذين يساعدونهم الآن في اغتصابه - وتدنيس الروم له ثم مجاهدة المسلمين من
أجله وتعظيمهم له فمن أحق به؟
فمن
هنا يتبين لك عدم استحقاق اليهود لوراثة أنبياء بني اسرائيل من الناحية
الشرعية، ومن ناحية مبادئ القانون الدولي المزعوم، ولكن القوميين هروباً من
محاولة نقض ما يراهم خصمهم من الثوابت وهي وراثتهم لأي شىء كان يخص بني
اسرائيل في أي فترة من فترات الزمان، لجأوا إلى حيلة مضحكة وهي ادعاء أن
المسجد الأقصى الحالي مسجد بناه عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لا علاقة
له بالمسجد الأقصى الذي كان في زمن أنبياء بني اسرائيل المسمى عند اليهود
بهيكل سليمان.
فهل يا ترى أفحمت هذه الكذبة المزعومة اليهود فراحوا ينقبون عن أي بقايا تثبت وجود بناء في هذا المكان قبل دخول المسلمين إليه؟
الجميع
يعلم أن اليهود لا يعترفون إلا بمنطق القوة، ومن ثم فإن الذي صرفهم عن هدم
المسجد وبناء معبدهم الكفري المزمع اقامته تحت مسمى هيكل سليمان، هو خوفهم
من قوة الإيمان الكامنة في النفوس لو استثيرت استثارة بالغة كهذه، ولذلك
يلجأون إلى الحفريات وإلى غيرها من أنواع الاعتداءات كالحرائق والهدم لبعض
أجزائه كبالونات اختبار للأمة، ومتى وجدوا أن الفرصة سانحة سينقضون على
المسجد ولن يردعهم أصوات القوميين الخافتة وهم ينادون: "ليس هذا هو مكان
هيكل سليمان"، ونسأل الله ـ عز وجل ـ ألا
يأتي هذا اليوم، ونسأل الله ـ عز وجل ـ أن يرزق أبناء الأمة إيماناً
وثباتاً وأن يلقي في قلوب أعدائنا الرعب فلا يجترئون على حرماتنا، اللهم
آمين.