الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم النبيين،
وعلى آله وصحبه أجمعين ومن اتبع هداهم
وسار على نهجهم إلى يوم الدين أما بعد
فإن من سنن الله عز وجل التي لا تتبدل
سنة الصراع بين الحق والباطل
والتدافع بينهما حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
قال الله عز وجل
(وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ
وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا
وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ)
[سورة الحـج: 40]
وقال سبحانه
(وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجَرِمِيهَا
لِيَمْكُرُواْ فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ)
[سورة الأنعام: 123]
وقال الله عز وجل
(ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاء اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ )
[سورة محمد: 4]
ومن أشد هذه التدافعات والابتلاءات التي تدور في واقعنا المعاصر
من هجوم منظم وحملة حاقدة على عقيدة أهل السنة ورموزها
يقوم به تحالف مشبوه يتوزع فيه الحلفاء الأدوار بينهم
فإن الواجب على كُلِ مُسلمٍ أن يبين الحقائق للناس
حتى يسيروا على بصيرةً وهُدىً , وليس على جهلاٍ ,
فالحقُ أبلج كالشمسِ في رابعة النهار
وقد مدح الله كتابه المجيد بأنه
{كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ}
[هود: 1]
وامتنَّ على عباده بذلك فقال
{وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى
وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}
[الأعراف: 52]
فهذا من رحمة الله تعالى بعباده،
فإن فيه حكماً عظيمة
وفوائد جمة،
منها:
إقامة الحجة بينةً واضحةً لا لبس فيها ولا غموض
فيسفر وجه الحق، ويتعرّى الباطل،
وتنكشف حقيقته، فلا ينخدع ببهرجه أحد
قال تعالى
{وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ}
[الأنعام: 55]
فهذا بحث مختصر في بيان البدع وما يترتب عليها من آثار سيئة
تضر بالأمة في دينها ودنياها،
راعيت فيه الاختصار والتركيز على الضوابط العامة
التي تمكننا من التعامل مع الواقع بشيء من الموضوعية والمنهجية،
حتى نتمكن من تشمير ساعد الجد للعمل على إحياء سنة النبي
صلى الله عليه وسلم،
وتخليص أمتنا من تبعات فشو البدع والظلمات في جنباتها،
سائلاً المولى عز وجل التوفيق والصواب
رب يسر وأعن
إن العلم بأصول التعامل مع أهل الافتراق عن منهج صحابة
رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرورةٌ يفرضها وجود هذه الفرق،
ويحتمها ما يترتب على أسماء الدين وأحكامه من حقوق وواجبات شرعية،
يأثم المرء بتعطيلها فضلاً عما يصيبه من ضنك العيش بالتفريط فيها
ولقد سلكت في هذا البحث مسلكاً مبسطاً،
حيث تناولته في قسمين؛
أولهما بيان حد البدعة وضوابطها،
وثانيهما بيان أهم الآثار المترتبة على فشو البدع في المجتمع والأمة
المبحث الأول: البدعة؛ تعريفها وضوابطها
------------------------------------------
إن الحديث عن الأثر السيء للبدع في الأمة
لا بد من أن يستهل بتحرير مصطلح البدعة،
والمقصود في هذا المقام أن نبين ما إذا كان مصطلح البدعة مصطلحاً
شرعياً تتعلق به أحكام وموجبات شرعية أم لا،
إذ أنه من المقرر لدى العلماء أنه لا يجوز تعليق أحكام الشرع
بما لم يجعله الله تعالى ورسوله صلى لله عليه وسلم مناطاً لذلك
هذا بالإضافة إلى أن تفاوت حد مصطلح البدعة عند البعض
قد يوهم بوجود بعض التعارض في أقوال أهل العلم حول مسائل البدع،
في حين أن تحرير هذا المصطلح تحريراً دقيقاً
يرفع هذا الوهم بإذن الله تعالى
وسوف أعرض مصطلح البدعة في هذا المبحث من جهة التعريف
ومن جهة الضوابط الشرعية إن شاء الله
المطلب الأول: تعريف البدعة
-----------------------------------
1--البدعة في اللغة
------
من بدع الشيء يبدعه بدعاً و ابتدعه أنشأه وبدأه،
والبدع الشيء الذي يكون أولا ،
ومنه قوله تعالى
" قل ما كنت بدعاً من الرسل"
لسان العرب – ابن منظور – 8/6
والبدع بالكسر الأمر الذي يكون أولا ،
و بدع أبدع الشيء اخترعه لا على مثال ،
ومنه قوله تعالى
" بديع السماوات والأرض"
القاموس المحيط – الفيروزآبادي - 906
فمدار معنى البدعة في اللغة يدور حول الإحداث والأولية.
2--وأما في الاصطلاح
---------------------------
فلقد وردت تعريفات عدة منها أن البدعة
"هي الفِعلة المخالفة للسنة، سميت البدعة لأن قائلها ابتدعها
من غير مقال إمام وهي الأمر المحدث الذي لم يكن عليه الصحابة
والتابعون ولم يكن مما اقتضاه الدليل الشرعي "
التعريفات – الجرجاني – 1/62
وعرفها الإمام الشاطبي رحمه الله بقوله :
"فالبدعة إذن طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية
يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه"
الاعتصام – الشاطبي- 1/24
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
"البدعة في الدين هي ما لم يشرعه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم،
وهو ما لم يأمر به أمر إيجاب ولا استحباب"
مجموع الفتاوى – ابن تيمية – 4/67
وإن جملة أقوال العلماء في تعريف البدعة يدور في فلك ما تقدم،
ولسوف نبين حد البدعة بتحرير أدق إن شاء الله
عند الكلام على ضوابط البدعة،
حيث تم المقصود في هذا الموضع
وهو تحديد الفرق بين المعنى اللغوي والمعنى الاصطلاحي للبدعة
لأن عدم تحرير ذلك سبب التباس الأمر على البعض
حيث ورد كلام عن بعض السلف رحمة الله ورضوانه عليهم
قد يفهم منه ارتضاء بعض البدعة
وليس الأمر كذلك،
تأمل معي قول أبي الفرج البغدادي رحمه الله
"وأما ما وقع في كلام السلف من استحسان بعض البدع،
فإنما ذلك في البدع اللغوية لا الشرعية؛
فمن ذلك قول عمر رضي الله عنه لما جمع الناس
في قيام رمضان على إمام واحد في المسجد
وخرج ورآهم يصلون كذلك، فقال: نعمت البدعة هذه"
جامع العلوم والحكم – البغدادي – 1/266
وتأمل قول الحافظ ابن حجر رحمه الله
"قال الشافعي البدعة بدعتان محمودة ومذمومة
فما وافق السنة فهو محمود وما خالفها فهو مذموم"
فتح الباري – ابن حجر – 13/253
فهذه النقول عن علماء السلف ينصرف استعمال لفظ البدعة فيها
إلى الاستعمال اللغوي كما هو واضح،
أما في استعمال الشرع فإنك لا تكاد تجد نصاً من الكتاب أو السنة
ورد فيه لفظ البدعة إلا وهو في مقام الذم،
وهذا يدل على أن البدعة بالاصطلاح الشرعي مذمومة
ولا يصح حمل كلام العلماء على غير هذا
يتبع