المطلب الثاني : تاريخ ظهور البدع
------------------------------
يمكن القول أن إرهاصات البدع وبوادر أصول الفرق قد ظهرت في عصر النبوة،
ففي الحديث عن أبي سعيد الخدري قال
](( بعث عليٌ رضي الله عنه وهو باليمن بذهبة في تربتها
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أربعة نفر؛
الأقرع بن حابس الحنظلي
وعيينة بن بدر الفزاري
وعلقمة بن علاثة العامري ثم أحد بنى كلاب
وزيد الخير الطائي ثم أحد بنى نبهان،
قال فغضبت قريش فقالوا:
أيعطي صناديد نجد ويدعنا؟
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
" إني إنما فعلت ذلك لأتألفهم"
فجاء رجل كث اللحية مشرف الوجنتين غائر العينين
ناتىء الجبين محلوق الرأس
فقال: اتق الله يا محمد.
قال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
" فمن يطع الله إن عصيته؟ أيأمنني على أهل الأرض ولا تأمنوني؟!
قال: ثم أدبر الرجل، فاستأذن رجلٌ من القوم في قتله -
يرون أنه خالد بن الوليد -
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" إن من ضئضئ هذا قوماً يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم
يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان يمرقون من الإسلام
كما يمرق السهم من الرمية لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد"
قال الإمام النووي رحمه الله
أي قتلاً عاماً مستأصلاً كما قال تعالى
"فهل ترى لهم من باقية"
ثم مضى العهد النبوي ،
وظلت كلمة الصحابة رضوان الله تعالى عليهم مجتمعة على الحق،
إلى أن وقعت الفتنة
كما ذكر محمد بن سيرين رحمه الله تعالى حيث قال
"لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة
قالوا سمُّوا لنا رجالكم، فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم
وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم"
شرح صحيح مسلم – النووي – 3/132
وذلك حين وقع أول اختلاف في هذه الأمة
وهو بزوغ الخوارج وخلافهم للصحابة رضوان الله عليهم
وتحققت نبوءة النبي صلى الله عليه وسلم
فعن أبي سلمة وعطاء بن يسار أنهما أتيا أبا سعيد الخدري
فسألاه عن الحرورية
هل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرها؟
قال: لا أدري من الحرورية
ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
" يخرج في هذه الأمة [ ولم يقل منها] قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم،
فيقرأون القرآن لا يجاوز حلوقهم أو حناجرهم،
يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية،
فينظر الرامي إلى سهمه إلى نصله إلى رصافه
فيتمارى في الفوقة هل علق بها من الدم شيء"
تأمل كيف قال
" يخرج في هذه الأمة ولم يقل منها "
أي أن سبيل أهل البدع مفارق لسبيل أهل الحق،
ووجود أهل البدع والأهواء بين ظهراني أهل السنة والحق
ليس من قبيل الانتساب إليهم في شيء
وما أجمل قول قتادة رحمه الله
" أهل رحمة الله أهل الجماعة وإن تفرقت ديارهم وأبدانهم،
وأهل معصيته أهل فرقته وإن اجتمعت ديارهم وأبدانهم"
تفسير القرآن العظيم – ابن كثير - 4/455
فالقضية قضية منهج لا قضية تواجد حسي بين ظهراني المسلمين،
فتأمل كيف ظهرت بدعة الخوارج حيث قالوا بكفر العصاة من الموحدين
واستباحوا بذلك دماء المسلمين
مخالفين بذلك إجماع الصحابة رضوان الله تعالى عليهم
ثم ظهر بعد ذلك قول المعتزلة في المنزلة بين المنزلتين،
وظهر بعدئذٍ قول المرجئة بأن الفاسق مؤمن كامل الإيمان
وفي مقابل بدعة الخوارج الذي كفّروا علياً رضي الله عنه
ظهرت نزعة التشيع الغالي،
وتعددت أصول البدعة فظهرت بالإضافة إلى هذه
الفرقة العملية البدع العقدية حيث ظهرت أولى هذه البدع
في مقولة القدرية في أول إمارة المروانية
والتي أنكرها كبار الصحابة
كعبد الله بن عمر وابن عباس رضي الله عن الجميع ،
فعن يحيى بن يعمر قال:
كان أول من قال في القدر بالبصرة معبد الجهني،
فانطلقت أنا وحميد بن عبد الرحمن الحميري حاجين أو معتمرين فقلنا:
لو لقينا أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألناه
عما يقول هؤلاء في القدر
فوفق لنا عبد الله بن عمر بن الخطاب داخلاً المسجد،
فاكتنفته أنا وصاحبي أحدنا عن يمينه والآخر عن شماله،
فظننت أن صاحبي سيكل الكلام إلي
فقلت
أبا عبد الرحمن إنه قد ظهر قبلنا ناس يقرؤون القرآن
ويتقفرون العلم وذكر من شأنهم
وأنهم يزعمون أن لا قدر وأن الأمر أنف.
قال
"فإذا لقيت أولئك فأخبرهم أني برئ منهم وأنهم برآء مني،
والذي يحلف به عبد الله بن عمر لو أن لأحدهم مثل أُحد ذهباً فأنفقه
ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر"
وهنا إشكال حيث ذكر أهل العلم في بعض المواضع أن بدعة الخوارج
هي أول الفتن ظهوراً في الأمة،
في حين ذكر البعض أن مقولة القدرية هي أول بدعة،
والجمع بينهما سهل بإذن الله إذ أن الأولية نسبية
فبدعة الخوارج كانت أول افتراق عملي في الأمة
أما بدعة القدرية فكانت أول بدعة عقدية
وإن كان مرد البدع جميعاً إلى العقيدة، والله أعلم.
ولقد قيض الله تعالى من علماء وجهابذة هذه الأمة
من وقف لهذه البدع بالمرصاد بدءً من ابن عمر
وباقي الصحابة رضي الله عنهم أجمعين
ومروراً بالتابعين فمن بعدهم من حملة لواء السنة،
وقد صنف العلماء قديما وحديثا في هذه المسائل تصانيف متعددة
وممن صنف في الإيمان من أئمة السلف الإمام أحمد
وأبو عبيد القاسم بن سلام
وأبو بكر بن أبي شيبة
ومحمد بن أسلم الطوسي وغيرهم كثير بعدهم،
فالحمد لله الذي عقد لواء السنة وقيض لرفعه رجالاً أفذاذاً
هم الظاهرين على الحق بإذن الله إلى يوم الدين
يتبع