المطلب الثالث : ضوابط البدعة
---------------------
إن وقوع بعض التجوز في استعمال لفظ البدعة في كلام المتقدمين
قد يوقع البعض في لبس وحيرة تجاه ما هو مذموم أو محمود
من كل محدث جديد وقع بعد النبي صلى الله عليه وسلم،
ومن ذلك ما استحدث من علوم النحو والحديث والتفسير،
فهذه لم تكن موجودة زمن النبي صلى الله عليه وسلم،
فهل يحكم عليها بالبدعة؟
وفي المقابل فإن البدعة المذمومة تتعلق بها أحكام وموجبات شرعية
توجب بيان حدها بياناً شافياً ييسر التعامل معها بما يؤمن به جانبها،
فلا تستشري ولا تعود على دين الناس بالفساد.
ولقد تكلم الإمام الشاطبي رحمه الله تعالى
كلاماً نفيساً في تحديد معالم وضوابط البدعة المذمومة
ولكن كلامه جاء متناثراً،
فعسى أن ييسر الله تعالى جمع هذه الضوابط في هذا الموضع.
الضابط الأول: البدعة المذمومة يقصد بها الغلو في التعبد لله تعالى
--------------------
قال شيخ الاسلام ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى
"قال بعض السلف:
ما أمر الله تعالى بأمر إلا وللشيطان فيه نزغتان:
إما إلى تفريط وتقصير
وإما إلى مجاوزة وغلو، ولا يبالي بأيهما ظفر"
إغاثة اللهفان – ابن قيم الجوزية - 114
ومن هذا قوله تعالى
"وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون"
فهذا الإخبار حقيقته أمرٌ بالعبادة،
ويأبى الشيطان إلا أن يكون له في هذا الأمر مهالك ومصارع
ينصب لبني آدم شراكها،
فإما أن يغويه إلى المعاصي فيقع في مهالك التقصير
وإما أن يدفعه إلى الغلو والاختراع والتقول على الله تعالى
فيما يزين كونه عبادة وحقيقته مهلكة العبد،
ذلك أن الله تعالى جعل العبادة موقوفة على أمر الله تعالى
تأمل معي قول الله عز وجل
" ورهبانيةً ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعَوها
حق رعايتها فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم وكثيرٌ منهم فاسقون"
فهذا إنكار من الله تعالى على النصارى في اختراع عبادة لم يكتبها
أي لم يفرضها الله تعالى عليهم، والاستثناء في قوله تعالى
(إلا ابتغاء رضوان الله )
استثناء منقطع،
وهو يبين مقصود النصارى من هذه الطريقة المخترعة
وهو بزعمهم طلب رضوان الله تعالى
ولقد أشار إلى هذا الضابط الإمام الشاطبي
في تعريفه المتقدم وذلك في قوله
" يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه"
وبين رحمه الله أن هذا القيد
يحدد البدعة بما يقصد به التعبد لله تعالى على وجه الغلو،
قال رحمه الله
" وهو تمام معنى البدعة إذ هو المقصود بتشريعها"
والنكتة في ذم هذا السلوك أن المبتدع تجاوز بمحض رأيه وهواه
حد الشرع في العبادة، فلم يره كافياً شافياً
وارتضى أن ينصب نفسه وهواه إلهاً
يشرع أصل العبادة أو يطلق وصفها،
ولقد تضافرت نصوص الكتاب والسنة
ونقول السلف على تحريم ذلك والمنع منه،
وفيما يلي طائفة من هذه الأدلة
1-قوله تعالى
" أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله "
قال ابن جرير رحمه الله تعالى في تأويل الآية
"أم لهؤلاء المشركين بالله شركاء في شركهم وضلالتهم
شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله،
يقول ابتدعوا لهم من الدين ما لم يبح الله لهم ابتداعه"
تفسير الطبري – 25/21
فهذا صريح في إنكار البدعة التي تضاهي الدين.
2-قوله تعالى
" يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق
إنما المسيح عيسى بن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم
وروحٌ منه فآمنوا بالله ورسوله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيراً لكم
إنما الله إلهٌ واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السماوات
وما في الأرض وكفى بالله وكيلاً"
روى الإمام ابن أبي حاتم رحمه الله بسنده عن قتادة قال
" لا تغلوا في دينكم ، يقول لا تبتدعوا"
تفسير ابن أبي حاتم – 4/1180
وذكر وجهاً ثانياً بسنده عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم يقول
" في قوله يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم : الغلو فراق الحق"
فهذه الآية تنكر بشكلٍ واضحٍ وصريحٍ على النصارى غلوهم في دينهم
حيث جاوزوا بعيسى عليه السلام من مرتبة النبوة إلى مرتبة الألوهية
وما قصدهم من ذلك – بزعمهم –
إلا عبادة الله عز وجل خابوا وخسروا،
والشاهد هنا تحرير ضابط الغلو في التعبد لله تعالى
وهو واضحٌ من جهة نسبة الغلو إلى الدين في هذه الآية
وإنكار ذلك عليهم وبيان أنه فراق للحق
3-حديث ابن عباس قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم غداة العقبة
وهو على ناقته القط لي حصى، فلقطت له سبع حصيات هن حصى الخذف،
فجعل ينفضهن في كفه ويقول: أمثال هؤلاء فارموا. ثم قال
" يا أيها الناس إياكم والغلو في الدين
فإنه أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين"
فهذا صريح في النهي عن الغلو في الدين
والمبالغة في التعبد لله تعالى بما لم يشرعه أو يأذن به الله تعالى.
4-حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
"من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه فهو رد"
فهذا صريح في عدم جواز الإحداث في الدين،
وقوله (أمرنا) أي ديننا.
5- عن أبي ذر رضي الله عنه قال
قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي ذر حين غربت الشمس
تدري أين تذهب؟
قلت: الله ورسوله أعلم.
قال: فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش،
فتستأذن فيؤذن لها،
ويوشك أن تسجد فلا يقبل منها، وتستأذن فلا يؤذن لها،
يقال لها ارجعي من حيث جئت، فتطلع من مغربها،
فذلك قوله تعالى
"والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم"
والشاهد في هذا الحديث قوله صلى الله عليه وسلم
(تذهب حتى تسجد تحت العرش، فتستأذن فيؤذن لها)
فهذا أصل في أن العبادة – وهي هنا السجود –
توقيفية مطلقاً
ولا يجوز إحداثها إلا بأمر من الشارع،
وهذا ما يعبر عنه العلماء بقولهم :
الأصل في العبادة الحظر
ويدخل في هذا كل سلوك يلتزمه العبد تجاه ربه تعبداً وتألهاً له،
فإنه لا بد وأن يكون بأمر من الله تعالى
وإلا فهو رد كما تقدم في حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها.
فهذه الأدلة صريحة في أن طريقة التعبد لله تعالى
تفتقر إلى إذن الله عز وجل
وإنما بلغنا هذا الإذن عن طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم،
فمن أراد لعبادته القبول
فلا مناص له عن تجريد المتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم،
كما قال الله تعالى
" قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله"
قال ابن كثير رحمه الله
" هذه الآية الكريمة حاكمة على كل من ادعى محبة الله
وليس هو على الطريقة المحمدية فإنه كاذب في دعواه
في نفس الأمر حتى يتبع الشرع المحمدي
والدين النبوي في جميع أقواله وأفعاله،
كما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال
" من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد"
ولهذا قال
" إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله "
تفسير القرآن العظيم – ابن كثير - 1/359
وفائدة هذا الضابط في تحرير مفهوم البدعة التمييز بينها
وبين ما أحدث بعد عهد النبي صلى الله عليه وسلم
مما لا يراد به التعبد بذاته،
قال الإمام الشاطبي
"وقد تبين بهذا القيد أن البدع لا تدخل في العادات"
الاعتصام - 27
ومثال هذا وسائل الركوب والاتصال وكل ما دخل على حياة الناس
من وسائل الراحة التي سخرها الله تعالى لنا،
بل إن هذا القيد يُخرج من البدعة أيضاً أموراً حدثت
بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقصد التعبد لله بذاتها،
وإنما هي من الوسائل التي يوجد في أصول الشرع
ما يدل على مشروعية اتخاذها لتحقيق مقصود الشرع،
وذلك من باب أن
الوسائل لها حكم المقاصد
وأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب
فإذا دل الشرع على مقصد مشروع – كتسوية الصف في الصلاة –
فلا مانع من اتخاذ وسيلة مباحة لتحقيق ذلك،
طالما لم يرد التعبد بهذه الوسيلة
وإن لم تكن موجودة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم،
ومثال ذلك الخطوط التي ترسم في أرض المسجد
فإن هذه لم تكن معروفة عهد النبي صلى الله عليه وسلم،
ومع ذلك فإنها لا تعتبر بدعة لأننا لا نتعبد لله بها،
وإنما نتعبد لله بتسوية الصف ونتخذ هذه الخطوط وسيلة لضبط ذلك،
وكذلك ركوب السيارة إلى المسجد لا يراد منه التعبد بركوب السيارة،
وإنما يتعبد لله بالسعي إلى المسجد
وتتخذ السيارة وسيلة لتحقيق هذا المقصد المشروع،
ومن ذلك أيضاً علوم النحو والإعراب ونقط المصحف وإعجام الحروف،
فهي وسائل لحفظ القرآن الكريم
ولكننا لا نتعبد لله تعالى بذاتها وإنما نتعبد لله بالمقصد الذي تبلغنا إياه.
إن تحرير هذا الضابط مفيد جداً في التمييز
ما بين البدع المذمومة والمستحدثات غير المذمومة
ويقطع دابر التشويش الذي يحدثه البعض حين يلبسون على الناس،
فيوهمونهم أن دعاة الحق ممن يحاربون البدعة
يريدون أن يعودوا بالناس إلى عصر الدواب والحمير والبغال،
وهذا التشويش إرجافٌ وتضليلٌ بلا ريب،
فدعاة الحق في كل زمان ومكان – نسأل الله أن يجعلنا منهم -
ليس لهم همٌ سوى حمل الناس على متابعة هدي النبوة،
ثم ليستمتعوا بما أباحه وسخره الله تعالى لهم في الكون ما شاؤوا،
وهل كان ضلال أهل الكتاب إلا عندما فرطوا في هذه المتابعة
فأحدثوا في دينهم وحرفوا كتاب ربهم حتى
انتهى بهم الحال إلى عبادة العباد
ومخالفة صراط رب العباد
يتبع